تاريخ عريق يجمع
المصريون على موائد الرحمن في رمضان
لقب بالشهر الكريم،
وشهر الخير، وشهر البركة، فالخير والكرم يعُمان على الناس وخاصة الفقراء منهم،
فتجد بيوتهم قد مُلئت بخيرات لا حصر لها، وبطونهم قد مُلئت طعام من موائد الرحمن
المنتشرة فى شوارع القاهرة، ولن تجد فقيراً غلبه النوم من شده الجوع أو تعباً جراء
البحث عن طعام لأسرته.
بداية
الموائد وانتشارها
وقد أطلق اسم
"موائد الرحمن" تيمناً وتباركاً بسورة " المائدة " ، أما اسم
الرحمن فأقتبس من أسماء الله الحسني تأكيداً على أهمية وقدسية هذه الطقوس، وعلى
الرغم من انتشارها فى مصر منذ عهد بعيد إلا أن العلماء اختلفوا على بداية ظهورها،
فتجد من يؤكد أن الفكرة اقتبست من إستضافة
الرسول عليه الصلاه والسلام لوفداً من الطائف - أثناء وجوده في المدينة ليعلنوا إسلامهم، وقد أعلن الرسول وقتها تكفله
بإفطارهم وسحورهم مدة مكوثهم في المدينة، وما لبث أن اقتدى الناس بفكرة الخلفاء
الراشدين حيث يذكر التاريخ أن "عمر بن الخطاب" كان يعد داراً للضيافة
ليفطر فيها الصائمين، وقد سار "هارون الرشيد" على خطى من سبقوه فقد كان
هو الآخر يقيم موائد للإفطار في حدائق قصره ببغداد , وكان يتجول متنكراً بين
الموائد ؛ ليسأل الصائمين عن رأيهم في جودة الطعام ومدى كفايته، ومن هنا
انتشرت تلك العادة فى مصر فقد قيل أن الفقيه المصري "الليث بن سعد" كان
يقيم موائد رحمن خلال شهر رمضان.
وقد اشتهرت موائده بفخامة الأطعمة المقدمة بها
ومذاقها الرائع وحلوياتها الشرقية التى تتربع سنوياً على الموائد، أما الخليفة
أحمد طولون فكان يقيم مآدب طعام للصائمين خاصة فى الثلاث سنوات الأولى من خلافته؛
حتى جاءت السنة الرابعة فأعد مأدبة كبيرة دعا إليها كبار الأعيان والتجار - بجانب
الفقراء - وأمرهم بفتح بيوتهم و قصورهم وإمداد موائد طعامهم وتهيئتها بأفضل
الأصناف وتخصيصها للفقراء، على أن تستمر تلك
الموائد طوال الشهر ويعاقب من يتجاهل تنفيذها، وقد استمرت الموائد على هذا المنوال
حتى عهد الفاطميين فعرفت "بدار الفطرة"
فكان يخرج من قصر المعز لدين الله
1100 صحناً بهم جميع ما لذ وطاب من ألوان الطعام توزع على الفقراء، كما
كانت تقام موائد رحمن بطول ما يقرب 500
متراً، وما لبث أن تراجعت تلك الموائد في عهد المماليك والعثمانيين بسبب الحروب
لتعود مع الاستعمار الانجليزي والفرنسي ، فقد بدأت الجمعيات الخيرية فى إعادة
إحيائها مرة أخرى .
موائد
خاصة بالملك فاروق
وقد أشتهر الملك
فاروق أيضاً بفتح أبواب السرايا وإستقبال الشعب بكل فئاته في شهر رمضان، فقد كان
قصر عابدين يضاء بالأنوار الكثيرة لإحياء ليالي رمضان، و كان
القائمين على إعداد الموائد بالقصر يضعون عدد كبير من المقاعد بالفناء الداخلي
للقصر تمهيداً لاستقبال عامة الشعب الذين يقبلون لتناول الإفطار مع
الخديوي و سماع آيات الذكر الحكيمفي ساحة السرايا، وكان أفراد الشعب
يسجلون أسمائهم فى السجلات المعدة لذلك والتى وضعت خصيصاً فى غرف التشريفات، ولم تقتصر المآدب الملكية
على قصر عابدين فقط بل كانت تمتد لجميع المحافظات وأيضاً جميع مطاعم المحروسة حيث
كانت توفر وجبات الإفطار للفقراء على أن يتم صرف تلك التكاليف منإدارة الخاصة
الملكية، وكانت ليالي رمضان عادة ما تنتهي بتوزيع مبالغ مالية على الحاضرين من
الفقراء وعامة الشعب .
وفي العصر الحديث
ظهرت موائد الرحمن على نطاق ضيق، حيث كانت تختص ببعض أصحاب الورش والمصانع الذين
يقومون بإعداد موائد صغيرة لإفطار العمال؛ لتعود على إثرها الموائد لتزين شوارع
المحروسة مرة أخرى بعد أن أقام بنك ناصر الاجتماعي عام 1967 مائدة رحمن بجوار
الجامع الأزهر، وإفطار أربعة آلاف صائم من أموال دافعي الزكاة؛ لتتوالى بعدها
موائد الرحمن في مصر فتجد موائد رحمن لوزراء ورجال السياسة وفنانين ورجال الدين،
وأصبح الجميع يتبارى في تقديم أفضل أصناف الطعام في موائدهم بهدف التقرب من
الله.
وقد وصلت عدد موائد
الرحمن فى القاهرة إلى أكثر من 40 ألف مائدة يستفيد منها أكثر من 3 ملايين مواطن –
وفقاً لعدد من الدراسات الصادرة من جامعة الأزهر – وينفق على تلك الموائد ما يزيد
أيضاً عن مليار جنيه سنوياً في القاهرة فقط مع العلم أن عدد الأشخاص أو الجهات
المنظمة والمكلفة بإقامة تلك الموائد تصل إلى عشرة آلاف جهة أو طرف، ولا يمكن
القول أكثر من أن التكافل الإجتماعي يتجلى خلال الشهر الكريم فى أعظم صوره والتي
لخصتها شوارع مصرفي موائد الرحمن.